رياض السنباطي




بلبل المنصورة وأمير النغم رياض السنباطي
امير النغم الذي أثرى الموسيقى العربية بالكثير من الألحان والأغنيات، تألق بسرعة البرق في سماء الفن، واحتل مكانة بارزة في أجواء الموسيقى العربية الأصيلة وبرز في العزف على العود وهيمن على أعلى المستويات في ميدان التلحين، منحه المجلس الدولي للموسيقي في باريس جائزته في عام 1964م وصنفه ضمن أفضل مائة موسيقي في العالم، وهو الموسيقار العربي الوحيد، الذي فاز بجائزة اليونسكو كأحد خمسة علماء موسيقيين من العالم.

ولد محمد رياض السنباطي وشهرته رياض السنباطي في 30 نوفمبر من عام 1906م في مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط بشمال دلتا مصر، ونشا في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية في بيئة فنية موسيقية وفي جو من الطرب العربي الأصيل حيث كان والده عوادا اخذ عنه مبادئ الموسيقى.

التحق رياض بأحد الكتاتيب، ولكنه لم يكن مقبلا على الدرس والتعليم بقدر إقباله وشغفه بفنون الموسيقي العربية والغناء، وهيأت له الأقدار الطريق الذي يتفق مع أهوائه وميوله، حيث أصيب وهو في التاسعة من عمره بمرض في عينه، أحال بينه وبين الاستمرار في الدراسة، وهو ما دفع بوالده إلي التركيز على تعليمه قواعد الموسيقي وإيقاعاتها، وقد أظهر رياض استجابة سريعة وبراعة ملحوظة، فاستطاع أن يؤدي بنفسه وصلات غنائية كاملة، وأصبح هو نجم الفرقة ومطربها الأول وعرف باسم "بلبل المنصورة"، وقد استمع الشيخ سيد درويش لرياض فأعجب به أعجابا شديداً وأراد أن يصطحبه إلى الإسكندرية لتتاح له فرصاً أفضل، ولكن والده رفض ذلك العرض بسبب اعتماده عليه بدرجة كبيرة في فرقته. 

وفي عام 1928م كان قرار الشيخ السنباطي الأب بالانتقال إلى القاهرة مع ابنه، الذي كان يرى انه يستحق أن يثبت ذاته في الحياة الفنية، مثله مثل أم كلثوم التي كان والدها صديقا له قبل نزوحه إلى القاهرة. 

تقدم بطلب لمعهد الموسيقى العربية، ليدرس به فاختبرته لجنة من جهابذة الموسيقى العربية في ذلك الوقت، إلا أن أعضاءها أصيبوا بنوع من الذهول، حيث كانت قدراته أكبر من أن يكون طالباً لذا فقد أصدروا قرارهم بتعيينه في المعهد أستاذا لآلة العود والأداء، ومن هنا بدأت شهرته واسمه في البروز في ندوات وحفلات المعهد كعازف بارع. 
ولم تستمر مدة عمله بالمعهد إلا ثلاث سنوات، قدم استقالته بعدها حيث كان قد اتخذ قراره بدخول عالم التلحين، وكان ذلك في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي عن طريق شركة أوديون للاسطوانات التي قدمته كملحن لكبار مطربي ومطربات الشركة ومنهم عبد الغني السيد، ورجاء عبده، ونجاة علي، وصالح عبد الحي. 

ومع تطور أسلوب السنباطي وسطوع نجم كوكب الشرق أم كلثوم في منتصف الثلاثينيات، كان لا بد لهذين النجمين من التلاقي، وكانت البداية بأغنية "على بلد المحبوب وديني"، التي قدمت عام 1935م ولاقت نجاحا كبيرا، لينضم السنباطي إلي قائمة ملحني أغنيات أم كلثوم والتي كانت تضم محمد القصبجى وزكريا أحمد.

وبعد أغنية "على بلد المحبوب وديني"، لحن رياض لأم كلثوم "النوم يداعب عيون حبيبي"، كلمات الشاعر أحمد رامي، والتي أعجبت بها أم كلثوم وقدمتها في حفلها الشهري على مسرح قاعة ايوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان حفلا مذاعا، ويعتبر من المنعطفات الهامة في حياة أم كلثوم والسنباطي معا، وظل رياض يمد أم كلثوم بألحانه وروائعه، حيث وجد في صوت أم كلثوم ضالته المنشودة، فبقدراتها الصوتية غير المحدودة وبإعجازها غنت ألحانه فأطربت وأبدعت. 

وكان السنباطي مميزا عن الآخرين فيما قدمه من ألحان لأم كلثوم وبلغ عدد هذه الألحان نحو 90 لحنا، إلى جانب تميزه فيما فشل فيه الآخرون وهو تلحين القصيدة العربية التي توج ملكا على تلحينها ومن أشهر هذه القصائد رائعته "الأطلال" التي تغنت بها أم كلثوم عام 1966م وحققت وما زالت تحقق حتى الآن أعلى مبيعات الألبومات الغنائية. 

وقد تأثر السنباطي في بداية تلحينه للقصيدة بالمدرسة التقليدية، كما تأثر بأسلوب زكريا أحمد. وأخذ رياض عن الموسيقار محمد عبد الوهاب الطريقة الحديثة التي ادخلها على المقدمة الموسيقية، حيث استبدل بالمقدمة القصيرة أخرى طويلة، ويري المؤرخون الموسيقيون أن ملامح التلحين لدى السنباطي قبل عام 1948م اعتمدت على الإيقاعات العربية الوقورة، والبحور الشعرية التقليدية الفسيحة، والكلمة الفصحى التي تقتضي في الإجمال لحنا مركزا.

وعلاقة السنباطي بالفن لم تنحصر في الموسيقى والتلحين فقط، فقد قدم في عام 1952م فيلما للسينما شاركته البطولة الفنانة هدي سلطان وكان من إخراج حلمي رفلة، وعلى الرغم من نجاح الفيلم إلا أن السنباطي لم يفكر في تكرار التجربة، دون إفصاح عن الأسباب إلا انه قال: "لم أجد نفسي في التمثيل فاللحن هو عالمي".

والي جانب كوكب الشرق أم كلثوم لحن رياض السنباطي للكثيرين من سلاطين الطرب أمثال منيرة المهدية، فتحية أحمد، صالح عبد الحي، محمد عبد المطلب، عبد الغني السيد، أسمهان، هدى سلطان ،فايزة أحمد، سعاد محمد، وردة، نجاة، وعزيزة جلال والتي قدم لها مجموعة من الأغاني العاطفية و لحن لها آخر عمل فني له وهي قصيدة "الزمزمية" وقصيدة "من أنا"، لتكون بذالك آخر فنانة تقدم أعمال رياض السنباطي.

وحظي الموسيقار الكبير بالكثير من مظاهر التكريم، فقد آثرته السيدة أم كلثوم من بين سائر ملحنيها بلقب العبقري، وكان عضوا لنقابة المهن الموسيقية، وعضوا في جمعية المؤلفين بفرنسا، وعضوا للجنة الموسيقي بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعضوا لجمعية المؤلفين والملحنين. 

وحصل السنباطي على العديد من الجوائز والأوسمة منها: وسام الفنون من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1964م، وجائزة المجلس الدولي للموسيقى في باريس في نفس العام، وجائزة الريادة الفنية من جمعية كتاب ونقاد السينما عام 1977م، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون والموسيقى ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من الرئيس الراحل محمد أنور السادات وعلى الدكتوراه الفخرية لدوره الكبير في الحفاظ على الموسيقى.

وقد رحل الموسيقار الكبير رياض السنباطي في التاسع من شهر سبتمبر عام 1981م بعد مسيرة فنية زاخرة بالأعمال الرائعة التي لازالت باقية في أسماع الناس حتى اليوم.




رياض السنباطي
أسمه محمد رياض محمد السنباطى ولد فى 3/11/1906 م بمدينة فارسكور بمحافظة دمياط عاش طفولته وصباه فى بيئة فنية ، فوالده المطرب محمد السنباطى . تعلم رياض السنباطى العزف على العود مبكراً وهو لم يتجاوز العقد الاول من عمره ، وفى تلك السن المبكرة كان استعداده ظاهراً تماما سواء فى إنشاده الأغانى التى كانت شائعة أو تلمسه لأوتار عوده . سافر السنباطى إلى القاهرة فى عام 1927م والتحق بمعهد الموسيقى ، وما إن تخرج منه حتى عين أستاذاً لمادة العود . أعماله الفنية : كان السنباطى أعظم من لحن القصيدة ، وقد لحن حوالى خمسين قصيدة بالاضافة إلى حوالى 100 أغنية زجلية باللغة الراقية ، ومن أجل ذلك لقبته كوكب الشرق ام كلثوم بالعبقرى ، ألف السنباطى كثيراً من القطع الموسيقية تبلغ 36 مؤلفاً ، أشهرها " لونجا السنباطى" و " رقصة المنديل" وإليها " و "رقصة شنغهاى" و "رحيل الفلك" و "زهور الربيع" و "الشروق" وغرام جديد" و "القبلة الاولى" و "ليلة القدر" وغيرها . ورحلة صوت أم كلثوم هى رحلة العمر ورحلة الفن ورحلة الموسيقى فى حياته حيث ان هناك إحصائية تقول ان انتاج السنباطى لأم كلثوم يصل إلى 21 قصيدة و14 منولوج و13 طقطوقة و15 أغنية سينمائية و33 أغنية وطنية . الجوائز التى حصل عليها : *حصل على الدكتوراه الفخرية ووسام الدولة فى العلوم والفنون عام 1980 م قبل رحيله . *حصل على شهادة أحسن موسيقار فى العالم عام 1960 م *حصلت أغنية الأطلال التى لحنها على أفضل عشرة أغانى فى هذا القرن . وأهم أعماله : ( اذكريني - سلو كؤوس الطلا - فاكر لما كنت جنبي - كيف مرت علي هواك - هلت ليالي القمر - قصيدة السودان - غلبت أصالح - رباعيات الخيام - قصيدة النيل - جددت حبك ليه - شمس الأصيل - أروح لمين - الحب كده - حيرت قلبي معاك - الأطلال - أراك عصي الدمع - القلب يعشق كل جميل   وغيرها )  خرج في المعهد العالي للموسيقي عام 1923

رياض السنباطي

في الثلاثين من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1906 كان ميلاد رياض السنباطي ببلدة فارسكور بمحافظة دمياط ، دلتا مصر ، والبعض يقول بل إنه من مواليد مدينة المنصورة ـ عاصمة محافظة الدقهلية ـ وهي أيضا تقع بدلتا النيل ومتاخمة لمحافظة دمياط ، غير أن المتفق عليه ـ فيما يشبه الإجماع ـ أنه انتقل مع والده إلى المنصورة وهو بعد صغير، وعندما ذاع صيته ولفت إليه الأنظار ونال لقب " بلبل المنصورة " ظن البعض أنه مولود بها .

نشأ رياض السنباطي في بيئة مفعمة بالموسيقى والطرب الأصيل ، فأبوه أحد قارئي القرآن المشهورين بالوجه البحري ، وهو أحد المنشدين الذين يؤدون التواشيح والمدائح النبوية في الموالد والأفراح بالدلتا وما حولها حتى حدود الإسكندرية ، وكان الأب يملك صوتا أخاذا ، وفوق ذلك كان بارعا في العزف على آلة العود ، ولهذا ، نشأ الطفل رياض شغوفا بالعزف على عود أبيه ، وكان ذلك سببا في كراهيته للمدرسة وفشله في دراسته الأولية ، وذات يوم ، ورياض في التاسعة من العمر، ضبطه والده عند جارهم النجار، هاربا من المدرسة يضرب على العود،و سمعه يغني أغنية الصهبجية: " ناح الحمــــــــــام والقمري على الغصون "، فطرب لصوته، وقرر أن يصطحبه إلى الأفراح. وفي ذلك الوقت كان عصر سلامة حجازي يمضي باتجاه الأفول ، و شمس عصر أحد أهم أعلام الموسيقى العربية وهو الشيخ سيد درويش تستعد للسطوع ، كانت للقاهرة ـ العاصمة ـ دنياها، وللأرياف دنياها. لكن بداية ظهور الأسطوانة والفونوغراف سنة 1904 مكنت الصلة بينهما. فاستمع الفتى الصغير إلى عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وأبي العلا محمد وغيرهم. ولكن ظلّ أستاذه الأول والده الشيخ محمد، في أغنيات لمحمد عثمان وعبده الحامولي.

قرر الشيخ محمد أن يصطحب ابنه الموهوب معه ليشاركه الغناء والإنشاد في كل المناسبات التي يدعى إليها في المنصورة ومحافظات الوجه البحري ، وبدأ الطفل الموهوب يجد الأرض الخصبة لصقل موهبته بالعزف وبالغناء بتشجيع من الأب والأصدقاء ـ وهي من الحالات النادرة ـ و لم يترك رياض الفرصة بل غنى وغنى وغنى وعزف حتى اكتسب جماهيرية منقطعة النظير ، وما كان من عشاق الفن الأصيل إلا أن يطلقوا عليه لقب " بلبل المنصورة " وهو في الثانية عشرة من عمره.
إلى العاصمةِ بحثـًا عن موطئِ قدم

ي السابعة عشرة من عمره انتقل السنباطي إلى القاهرة واستقر فيها، ولم يلبث أن دخل معهد الموسيقى العربية تلميذا، فارتأى معلموه " أن هذا الفتى الناحل يعلم من فنون والده أكثر مما يعلمون، وأنه يضرب على العود أحسن مما يضربون، فعينوه أستاذا لتعليم الموشحات والعزف على العود في المعهد، فكان تلميذا وأستاذا معا " ، وفي زمن قياسي ، وفيما يشبه إجماع النقاد ، بدأ اسم السنباطي يلمع ويتقدم ليصبح في طليعة عازفي العود العرب، إن لم يكن أعظمهم. وبدأ يلتقي بكبار الفنانين والشعراء وفي مقدمتهم أمير الشعراء أحمد شوقي والمطرب الشهير الذي كان يرعاه: محمد عبد الوهاب.ويضع السنباطي أول لحن ليغنيه وهو قصيدة شاعر المنصورة على محمود طه: " يا مشرق البسمات أضئ سماء حياتي " ، ثم تعرّف على الشاعر حسين حلمي المانسترلي فعرفه بشركة "أوديون" للأسطوانات وأخذ يسجل لديها ألحانه لقاء أجر زهيد جدا، فغنى بصوته لكنه آثر التلحين. فغنى له عبد القادر "أنا أحبك وانت تحبني"، وغنت له منيرة المهدية أوبريت "عروس الشرق"، فنالت شهرة واسعة ، وغنى له عبد الغني السيد " يا ناري من جفاك "
مـــــــــدارس

بدت ألحان السنباطي متأثرة بالمدارس الموجودة آنذاك : محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ، غير أن تأثره الأكبر كان بالمدرسة القصبجية ، فقد كان القصبجي متقدما على الجميع ( جيله ) ، ومعظمهم لم يسلم من تأثيره ، وكلهم أكدوا أنهم تلاميذ مدرسته ، غير أن السنباطي كان أكثرهم اعترافــًا بأثر القصبجي عليه ، ويكفي أن نسترجع من هذا العصر تلك القيمة الكبرى التي انقرضت من حياتنا بأكملها وليس من الفن فقط ، فقد سبق القصبجي الجميع بالتلحين لأم كلثوم بدءا من العام 1924، وتبعه زكريا بداية الثلاثينيات ، ثم السنباطي في أوسطها ، ثم عبدالوهاب في العام 1964 ، وبعد أن كف القصبجي عن التلحين منذ منتصف الأربعينيات ، لم نره يبتعد ، بل ظل قابضا على عوده ، وارتضى أن يكون عازفا خلف السيدة أم كلثوم يؤدي ألحان زملائه ـ أو تلاميذه ـ زكريا والسنباطي وعبد الوهاب ، ومعهم ألحان ولديه بليغ حمدي ومحمد الموجي اللذين سطعت أعمالهما العاطفية الكبرى في صفحة الستينيات ( بليغ 1960 ، والموجي 1964 قبل شهر من سطوع عبدالوهاب ، وإن كان الموجي قد لحن لها في الخمسينيات أعمالا وطنية ودينية ) ، ضرب القصبجي المثل الأعلى في قيمة المعلم الأب الذي يحتضن صغاره ويفرح بهم ، بل إن موقفه من بليغ حمدي لهو النموذج الذي يجب أن يسود في كل تصرفاتنا ، فقد لحن بليغ لأم كلثوم أغنية " حب أيه " وهو في السادسة والعشرين من العمر ، وكان القصبجي هو المشجع الأول له في الفرقة الموسيقية ، وهو الذي علّم بليغ من قبل أن يلتقي بأم كلثوم ، وظل بليغ يذكر له هذه الأفضال حتى لحاقه بهم .
ماردُ القصيدة ... أسطورةُ أمِّ كلثوم

إذا كان الشاعر أحمد رامي هو فارس الرهان في مضمار الكلمة الكلثومية ، فإن السنباطي هو فارس الرهان في مجال الموسيقى ، وهما معا ـ رامي والسنباطي ـ يشكلان الضفيرة اللامعة في الحالة الخالدة التي أسميها " الكلثورامسنباطية " . كانت بداية السنباطي مع أم كلثوم بأغنية " النوم يداعب عيون حبيبــــي " لرامي ( 1936 ) ، ومن بعدها انهمر المطر السنباطي الكلثومي ليأخذ اتجاهه الفريد باتجاه القصيدة التي جاء السنباطي مختلفا فيها تماما عن القصبجي وزكريا ، وأصبح السنباطي ينافس نفسه على صوت أم كلثوم لتتحول كل أعماله الطويلة ، فصحى وعامية ، إلى علامات ناتئة في مسيرة أم كلثوم والأغنية العربية ، خرج السنباطي بكل مخزونه من الخبرة والموهبة والجمال منذ أن كان طفلا مستمعا مستمتعا بفن أبيه ، ثم بلبلا صغيرا على أغصان الأرياف البحرية ، ثم تلميذا وأستاذا بمعهد الموسيقى ، فعازفا ومرددا خلف محمد عبدالوهاب الذي يلحن ويغني أشعار أمير الشعراء والأخطل الصغير وغيرهما من القدامى ، هاهو السنباطي يقفز ليقود المسيرة الكلثومية ، القصبجي يتراجع ويتأهب لأخذ مكانه عازفا في فرقتها ، وزكريا سيطلق عددا هائلا من الأعمال الكبرى ثم يختلف مع أم كلثوم لينفرد السنباطي بالحنجرة الذهبية يطلق من خلالها أعلى وأغلى ما في تراثنا الغنائي .

السنباطي لم يكمل تعليمه ، لا الأساسي ولا بمعهد الموسيقى ، ولكنه جاء أستاذا وعلما من أعلام اللغة العربية ، وعبر صوت أم كلثوم وغيرها من الأصوات الكبرى قدم العشرات من أمهات القصائد التي تحولت إلى مدارس للعامة والبسطاء يرددونها ويحفظونها ويتعلمون منها في زمان لم يكن التعليم متاحا لمعظمهم . أحصيت لأم كلثوم وحدها اثنتين وتسعين قصيدة ، كان نصيب السنباطي منها ثلاثا وخمسين قصيدة ( الرقم تقريبي ، لكنه الأقرب على الإطلاق بعد مطابقة أكثر من عشرين مرجعا ومصدرا ) ، هذا ، بالإضافة إلى القصائد التي أداها بصوته أو لحنها للآخرين والأخريات ، وكلها علامات في تاريخ كل ّ منهم ، لكنني أراه مع أم كلثوم أكثر حضورا وتألقا وتوهجا ، مع أم كلثوم يشعر بالندية وأنه أمام هرم كبير فلابد أن يكون هرما ، بينما أراه مع الآخرين يلحن لهم وهو " واقف " ولا ينحني ليتساوى بهم ، عبدالوهاب كان على العكس تماما ، يلحن لأم كلثوم ، ويلحن لمحمود شكوكو ، مع أم كلثوم يعطيها على مقاسها ، ومع شكوكو يعطيه مقاسه ، أي لونه برؤية عبدالوهاب ، وربما كان السنباطي مكتفيا بأم كلثوم ومستغنيا بهـــا ( وعنده ألف حق ) وفوق ذلك كان عفيفا شرسا مع نفسه لا يسعى إلى الأضواء أو يتسولها ، كان مدركا أن الزمن لا يرحم ، وأنه لن يبقي إلا على ما يستحق البقاء ووجد في ثومة ـ وحدها ـ ما يكفي وزيادة .

لحن السنباطي لأم كلثوم مائة وثلاثة أعمال من جملة ما غنت ، منها ثلاث وخمسون قصيدة ، أي لحن لها بالفصحى أكثر مما لحن بالعامية ، وعلى ألحانه لها رأينا جامعة عربية وإسلامية وتاريخية: من رامي وشوقي وعبدالفتاح مصطفى وطاهر أبي فاشا ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وإبراهيم ناجي وأحمد فتحي وحافظ .... إلخ ، إلى الأمير عبدالله الفيصل وأحمد العدواني ونزار قباني ، إلى عمر الخيام ( من إيران ) ، ومحمد إقبال ( باكستان ) ، إلى أبي فراس الحمداني الذي غنت أم كلثوم قصيدته " أراك عصي الدمع " بلحن السنباطي بعد وفاته ـ أبا فراس ـ بألف عام إلا ثلاثة !!! ( أم كلثوم غنت القصيدة من قبل بألحان عبده الحامولي 1926 وتسجيلها موجود ، وبألحان زكريا أحمد 1944 وليس لها تسجيل ،وأخيرا السنباطي في الثالث من ديسمبر ( كانون الأول ) 1964 ). ولا نستطيع أن نتجاوز استجابته للآلات الحديثة في ألحانه للقصائد في المربع الأخير من الرحلة خصوصا في " أقبل الليل " و " من أجل عينيك " ، وربما كان ذلك ـ في ظني ـ قد حدث نتيجة للثورة التي أحدثها المغامر بليغ حمدي الذي اكتسح المرحلة الأخيرة لأم كلثوم بدءا من العام 1960 ، مع الوضع في الاعتبار أن السنباطي قدم لها في الفترة نفسها ثلاثة أمثال ما قدمه بليغ ، فقط أرى أن بليــــغ " حرّض " الجميع على التجريب والمغامرة ، وكسر حدة أم كلثوم في تعاملها مع الآلات الحديثة التي ترفضها وذلك منذ أن أدخل آلة الأوكورديون في أغنية " سيرة الحب " التي غنتها في الحفل نفسه الذي غنت فيه أم كلثوم " أراك عصي الدمع " للمرة الأولى من ألحان السنباطي ، والمفارقة أن السنباطي استخدم البيانو في لحنه الرائع البديع ، ولا يمكن أن ننسى ـ من حقبة الستينيات ـ قصائد السنباطــــــــي : " الأطلال " التي هي قمة هرم الغناء العربي على الإطلاق ، والتي اختيرت كأحد أخلد مائة عمل في مائة عام ( القرن العشرين ) ، ثم " حديث الروح " ، " أقبل الليل " ، ثم " الثلاثية المقدسة " و " من أجل عينيك " في السبعينيات ، بالإضافة إلى مجموعة من العاميات الشامخة لأم كلثوم ، وعشرات القصائد والعاميات للآخرين .
الهزيــــــعُ الأخـــــــير

في الأمتار الأخيرة من الرحلة بدأ السنباطي واحدا من أهم مشاريعه الغنائيــــــــة ، ولكن ........ ، ذلك المشروع هو تلحينه ثلاث قصائد للسيدة فيروز ، وتدربت عليها معه ( 1979 ) ولكنه رحل قبل أن تغنيها ، وعندما بالغت في نسيانها حدث ما يشبه الخلافات بين ابنه الفنان أحمد السنباطي والعائلة الفيروزية ، على أثرها بدأ السنباطي الابن يهدد بأنه سيتنازل عنها لأي صوت ، وحتى هذه اللحظة لم نتقدم خطوة باتجاه الحل !!

القصائد هي : " بيني وبينك " ، " أمشي إليك " وهما من أشعار جوزف حرب ، الشاعر اللبناني الكبير ، وأجيد البكاء عندما أستمع إليهما بصوت السنباطي ، ولا أدري من المسؤول عن تسريب هاتين الرائعتين إلى إذاعة العدو ( قبل عشرين عاما ) ، ثم إلى عشرات المواقع على شبكة الانترنت ، وما يحزنني هو أن " بيني وبينك " ملبدة بأخطاء النحو واللغة ، وهذا يدل على أنها ليست الصورة النهائية التي تركها السنباطي ، بل أزعم أنها تكاد تكون التجربة الأولى للحن . أما القصيدة الثالثة فهي " آه لو تدري بحالي " للشاعر الكبير عبدالوهاب محمد .
وبعــــــــد

فقد رحل السنباطي قبل ربع القرن ، في التاسع من سبتمبر ( أيلول ) 1981 ، وترك صوته مسافرا فينا ، وأنفاسه حارسة للقصيدة العربية الفصيحة التي أعطت الغناء العربي معظم شرفه قبل أن يأتي المخربون الجدد ويجرّدوا الغناء العربي من " العربي " ومن " الغناء " ومن " الشرف " ومن كل الجميل والجمال الذي ورثناه

عن :بقلم بشير عياد - مجلة " الوطن العربي " ، العدد رقم 1550 ، الأربعاء ، الخامس عشر من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 2006 م