محمد القصبجي





 الفنان محمد القصبجي



تتلمذ على يديه عبدا لوهاب والسنباطي وفريد
محمد القصبجي.. مهندس البناء الموسيقي 

بعد تسعة وعشرين يوما فقط من مولد سيد درويش ولد الفنان »محمد علي إبراهيم القصبجي« الذي اشتهر باسم »محمد القصبجي« وهو الفنان الذي اجمع الكثير من الكتاب والنقاد على أنه لم ينصف في حياته ولا بعد مماته، ففي الوقت الذي لم نحتف به كما يليق أنشئ في العاصمة التركية اسطنبول معهد للموسيقى باسمه، اعترافا بأهمية هذا الفنان وفي إيران غنت له المطربة »أنموش« في سبعينات القرن الماضي لحناً لأم كلثوم »يا طير يا عايش أسير« كان قد وضعه عام ،1935 كما ذكر فيكتور كاب في كتابه »السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة«.
ولد القصبجي بحي عابدين بالقاهرة في 15 ابريل/ نيسان عام 1892 من أب يعمل في الحقل الفني وكان المثل الأعلى بالنسبة له، حيث كان مقرئا للقرآن الكريم ومنشدا دينيا كما كان عازفا ماهرا على آلة العود بالإضافة إلى كونه ملحنا »قديرا« غنى ألحانه كل من عبده الحامولي، يوسف المنيلاوي، صالح عبدا لحي، زكي مراد، محمد السنباطي، وغيرهم من مشاهير المطربين والمطربات فلم يكن غريبا أن يتعلق القصبجي الابن بهذا الجو الفني، ويتجه إلى الموسيقى والغناء.
نشأ القصبجي في وقت لم تكن فيه معاهد موسيقية، وبالتالي لم يدرس التدوين الموسيقي في معهد أو على يد أحد من الأساتذة، لكنه استفاد بحسن خطه وحبه للرسم في تعلمها أثناء تدوينه للنوت الموسيقية لوالده مع الاستفادة من الكتب والمراجع الموسيقية في هذا المجال واستطاع بقوة إرادته وذكائه أن يتعلم فن التدوين الموسيقي.
وبالرغم من معارضة والده اشتغاله بالموسيقىى في بداية حياته فإنه عندما اكتشف موهبته الموسيقية الأصيلة ومع اقتناعه الكامل بأن الموسيقىى فن رفيع اخذ يشجعه وينمي فيه الحس الفني، كما أهداه أحد أعواده الثمينة، وأخذ في تعليمه أصول العزف والموسيقىى العربية، فكان والده خير معلم له في بداية مشواره الفني.
تعلم محمد القصبجي مبادئ التوزيع الأوركسترالي، الهارموني، والكنترباص على أيدي قادة الفرق الموسيقية الأجنبية التي كانت موجودة في مصر آنذاك والتي تفد إليها في المواسم الموسيقية، كما كان يحرص دائما على ألا تفوته مشاهدة مواسم الأوبرا الأجنبية وفرق الباليه التي تفد إلى مصر كل عام وكان شديد التعلق بحضور حفلات أوركسترا القاهرة السيمفوني والتي دعمت موهبته الموسيقية.
وعند اكتمال موهبته الموسيقية، بدأ في تلحين بعض الأدوار والموشحات، وبعد احتلاله الصفوف الأولى في مجال تلحين الأغاني الفردية، اتجه القصبجي إلى مجال المسرح الغنائي وقدم فيه أروع الأوبريتات التي قدمتها فرقة منيرة المهدية وذلك في الفترة مابين 1924 و1927 وهذه المسرحيات هي (المظلومة) التي اشترك معه في تلحينها كل من كامل الخلعي ومحمد عبدا لوهاب، »كيد النسا، حياة النفوس، وحرم المفتش«.
وفي عام 1928 عهد إليه نجيب الريحاني بوضع ثلاثة ألحان في أوبريت »نجمة الصبح« وقد اشترك معه إبراهيم فوزي بأربعة ألحان أخرى.
ويعتبر القصبجي من أوائل الملحنين الذين اثروا السينما المصرية بالألحان الموسيقية العربية المتطورة وذلك من خلال أغاني الأفلام التي شدت بها كل من نور الهدى، أسمهان، ليلى مراد، سعاد محمد، هدى سلطان، صباح، وشادية.
أما بالنسبة لأم كلثوم فقد كان للقصبجي نصيب الأسد من أفلامها الستة إذ لحن خمسة منها هي: »وداد، نشيد الأمل، دنانير، عايدة، وفاطمة«.
يعتبر القصبجي من الشخصيات الموسيقية اللامعة التي شاركت في نهضة الغناء العربي منذ العشرينات وحتى الستينات وظل ينبوعا متدفقا للألحان التي تحمل طابع الابتكار فكان له شخصية مستقلة وله مدرسة خاصة في التلحين والعزف على آلة العود، وتتلمذ على يده بعد ذلك في آلة العود كل من محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش.
بدأ الناس في الحديث عن محمد القصبجي ولونه الخاص الذي انفرد به ولم يشاركه فيه أحد من معاصريه بدءا من العام، 1920 فبفضله خطت الموسيقى خطوات واسعة نحو الرقي والتهذيب، كما يرجع له الفضل في نجاح أم كلثوم في مطلع حياتها الفنية.. فقد شاركها بألحانه على مدى أكثر من ثلاثين عاما، وغالبية أغانيها من ألحانه التي أجلستها على عرش الطرب العربي.
ومن اشهر ألحانه لها في مطلع حياتها أغنية: »إن كنت أسامح وانسى الأسية« وذلك عام ،1926 وقد بيع من هذا اللحن اكثر من مليون اسطوانة آنذاك.
ولم يكن هذا فحسب هو فضل القصبجي فقد اكتشف الكثير من الفنانين والفنانات نذكر في مقدمتهم المطربة ليلى مراد، إذ قدمها في أول أعمالها الفنية عام 1933 حينما غنت له »يوم السفر« في فيلم »الضحايا«.
وكما يقول فكري بطرس صاحب كتاب »أعلام الموسيقىى والغناء العربي« فإن ألحان القصبجي تميزت بطابع خاص عرفت به بين جميع ألحان معاصريه أمثال داود حسني وكامل الخلعي وزكريا احمد، فألحانه تجمع بين المدرسة القديمة مع وضعها في قالب حديث متطور فيه لمسات وتعبيرات ناضجة وتصوير صادق أمين وإليه يرجع الفضل في تهذيب الألحان الشرقية وقد ظل طوال حياته الفنية على نفس هذا الخط، لم ينحرف ولم يتلون عنه، إذا استثنينا تجربته الفريدة في لحن واحد.. وهو »يا طيور« للمطربة أسمهان.
عاش القصبجي أربعة وسبعين عاما قضاها في محراب الفن تعاقبت عليه فيها ثلاث مراحل متناقضة، أولاها مرحلة التلحين لمطربات صالات الغناء قبل ظهور أم كلثوم، واستغرقت هذه المرحلة قرابة اثني عشر عاما من حياته، أتيح له خلالها أن يتصل بأشهر المغنيات، على رأسهن منيرة المهدية وتوحيدة.
وفي عام 1924 سمع القصبجي باسم أم كلثوم لأول مرة، ثم استمع إلى صوتها في »الكشك« الذي تغني فيه بحديقة الازبكية لحنا للشيخ أبو العلا محمد بالإضافة إلى عدد من الأدعية الدينية والموشحات، بلا تخت وبلا إيقاع ومنذ ذلك الحين لم يفارق القصبجي أم كلثوم وتبين له الفارق بين هذه المطربة الجديدة آنذاك وبين طائفة مغنيات الصالات، وكانت هذه بداية إحياء طرائق الغناء العربي المتقن على حناجر المطربات المصريات ونهاية غناء مغنيات الصالات.
وبدأت المرحلة الثانية من الحياة الفنية للقصبجي، وأخذت تتسع وتتطور مع أم كلثوم والمطربات اللاتي ظهرن في عصرها ونسجن على منوالها، وغنين من ألحانه منذ العشرينات إلى قرب نهاية الأربعينات. وفي هذه المرحلة الخصبة من حياة القصبجي اسهم في تطوير الغناء العربي والموسيقا العربية وأوشك أن يغالي في طلب التطوير والتجديد حتى قيل على سبيل الفكاهة إنه كاد يجعل من أم كلثوم أرمينية أو تركية، إلا أن القصبجي في الحقيقة لم يكن متفرنجا، ولكنه كان جريئا في الاستفادة مما يسمعه من الألحان الأوروبية.
أما المرحلة الثالثة والتي امتدت منذ الخمسينات حتى نهاية مشواره الفني في منتصف الستينات فقد كان إنتاج القصبجي فيها من الألحان بسيطا، واكتفى بالعزف على العود في فرقة أم كلثوم.
وتتميز مدرسته في التلحين كما قال د. سعيد رجب الشهير بـ »سعيد القصبجي«، بهندسة البناء والجمل الموسيقية التي تبنى على أساس علمي وذوق فني رفيع، كما تتميز بالمسافات الصوتية المتباعدة وظهرت عبقريته الموسيقية الفذة والتي تحمل هذا الطابع في تلحين مونولوج (إن كنت أسامح) الذي يعتبر فتحا جديدا في تلحين قالب المونولوج بصفة خاصة وفي الألحان الموسيقية العربية بصفة عامة.
وكان العام 1927 بمثابة بداية عهد جديد حيث يرجع إليه الفضل في تطوير قالب المونولوج الغنائي، وأول من توسع في اللزمات الموسيقية التي تتخلل الغناء وهي الموسيقي الخالصة في المقدمات وبين فقرات الغناء ففي مونولوج (إن كنت أسامح) خرج على الأسلوب التقليدي في التلحين، واستغل فيه إمكانات أم كلثوم الصوتية بجانب المقدمة الموسيقية التي استهل بها اللحن على طريقة الغناء الأوبرا لي، كما ادخل طريقة التظليل والترديد بالصدى، وفي مونولوج (يا ما ناديت من أسايا) استخدم آلة التشيللو لأول مرة مع أم كلثوم.
وقد سبق القصبجي عصره في بنائه للجملة الموسيقية واستخدامه للانتقالات اللحنية التي تبنى على أساس علمي وذوق فني رفيع، مع الإحساس العربي المرهف. ومن العوامل التي ساعدته على الارتقاء بقالب المونولوج التقاؤه بالشاعر أحمد رامي وصوت أم كلثوم، وقد أثرى قالب المونولوج بخصائص وسمات لم تكن موجودة من قبل.
كما كان له أسلوب مميز في تلحين قالب الطقطوقة الذي أثراه بأكثر من 220 طقطوقة خلال مشواره الفني.
وبالرغم من نجاحه الذي حققه في تلحين الأغاني العاطفية والاجتماعية فإنه لم يفته خدمة الحركة الوطنية آنذاك حيث لحن عشرات الألحان الوطنية التي شدا بها أعظم المطربين والمطربات بداية من منيرة المهدية مرورا بصالح عبدا لحي وفايدة كامل والمطربة نازك عام 1958. ولحن من الأدوار ثلاثة عشر كتب معظم كلماتها، ومن الموشحات واحدا ومن القصائد اكثر من 40 قصيدة وتأثر بمدرسته في الألحان والعزف على العود كل من عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وكان آخر ألحانه لأم كلثوم في فيلم (فاطمة) عام 1947.
وفي مارس عام 1966 توفي القصبجي لكن أعماله الفنية العظيمة بقيت حية لا تموت، وهي ماثلة فيما خلفه من ألحان بالغة الرقي والجمال، أسهمت في تطوير الغناء العربي المتقن.
وتقول ابنة شقيقته كوثر الصفتي أن والده كان يخاف عليه من التعلق بالفن في البداية فكان يخبئ العود بعيدا عنه ولكن القصبجي احضر مجموعة من الأخشاب ودق عليها المسامير وركب لها أوتارا من عود والده القديم وبدأ يدندن عليها وكان يخبئه من والده تحت السرير.
وفي مدرسة المعلمين ألف فرقة موسيقية صغيرة وكان يقوم بإحياء حفلات مجانية داخل المدرسة إلى أن طلب منه أحد زملائه إحياء حفل عرس، فوافق ودفع له مبلغا من المال وهذه كانت البداية.
وكان القصبجي في البداية مطربا اكثر منه ملحنا حتى تعرف إلى مطربة اسمها توحيدة كانت تغني في صالة ألف ليلة وليلة وقدم لها لحن »الحب له أحكام« فغنته وصفق لها الجمهور وبعد ذلك تعرف إلى منيرة المهدية وكانت آنذاك تشتغل مع كامل الخلعي الذي شجعه على عرض لحن من ألحانه عليها وحاز القبول وغنته له وتلتها فتحية احمد وهي التي أطلقت عليه اسم »قصب«.
وتقول كوثر إنه كان يعتبر السيارة رفاهية وكان يحب المشي حتى لا يصاب بتضخم في القلب أو بذبحة صدرية وكان سائق الترام يقف له في غير الأماكن المحددة للمحطات.
وتضيف أنه كان متواضعا لا يحب المظاهر أو البذخ وانه كان لا يمكن أن يشرب أو يأكل أي شيء في الحفلات وكان يمكن أن يأخذ كأس الشراب ويلقيه في الأرض. وانه كان لا يدخن ولا يشرب شايا أو قهوة أو أيا من المنبهات، ولكنه كان يشرب منقوع البلح أو الفول كل يوم في الصباح والثوم المجفف بدلا من اللبن ولكنه عندما اصيب بقرحة كان يشرب اللبن ويأكل »المسلوق« والأرانب والفراخ الصغيرة بدون دسم وكان لا يحب اللحوم ويقول إنها تأتي بأمراض كثيرة، كان دائم المحافظة على صحته.
كان لا يحب الزيارات ولم تكن لديه أي علاقات فكان يرجع إلى البيت يقرأ، يكتب، يلحن، وإذا زاره صديق يقدم له أي مشروب يريده ثم يعتذر بعد ذلك لارتباطه بعمله.
كان بيته مثل متحف، ساعات كثيرة، وأجراس جميع الأحجام، وراديوهات، لديه أنتيكات نادرة حتى علب الأدوية يحتفظ بها، كانت من هواياته إصلاح الأجهزة الكهربائية فقد قام بتركيب أجراس إنذار كثيرة في المنزل لأنه تعرض لحادثة سرقة وبهذه الإنذارات كان يريد إمساك الحرامي إذا عاد مرة أخرى.
وكان رحمه الله له العديد من الأعواد معلقة على الجدران، عود لتلحين المونولوج، وآخر للقصيدة، وآخر للطقطوقة وآخر للمقطوعة الموسيقية وكثير من الناس كانوا يتمنون شراء عود من أعواده ولكنه كان دائما يرفض مهما عرض عليه من أموال.
وتستطرد كوثر أنه عندما مرض أعلنوا خبر وفاته في الإذاعة والتلفزيون بطريق الخطأ وبعد ذلك جاءت الإعلامية أماني ناشد للتسجيل معه فرفض وقال لها »أنت فين قبل المرض«، وقالت له إننا سجلنا مع زكريا احمد قال لها قعدتوه على كرسي فأنا لا اقدر أن أسجل وأنا على فراش المرض لأنني ضعيف الآن يمكن أن أسجل وأنا قوي فقط ورفض التسجيل ومات بعد ذلك بحوالي شهرين في هدوء تام وكان قبلها يتحدث مع الطبيب ولم يدخل في غيبوبة ولم يمت في عملية كما قال الجميع.


مأساة القصبجي مع أم كلثوم


لم يكن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم الأستاذ الثالث لها وحسب, لكنه مَنْ كوَّن لها الفرقة الموسيقية والمطّور لصوتها .. فماذا حدث?

إن من يلم إلماما تاما وعميقا بكامل الرصيد الموسيقي لمحمد القصبجي - وعلى الأخص ذلك الجزء من رصيده الذي أنجزه من خلال صوت أم كلثوم في عقدين من الزمن (1925 - 1945), ويدرك تمامًا تفاصيل مسيرة التطور الهائل الذي حققه في تطوير الموسيقى العربية (بعد سيد درويش ومع محمد عبدالوهاب), خاصة من خلال اعتماده على صوت أم كلثوم , لا يستطيع أن يصف الأزمة التي نشبت بينه وبين أم كلثوم , وأدت إلى إنهاء قسري لدوره كملحن عبقري, وتحويله إلى مجرد عازف عود, يؤدي وراءها ألحان سواه من الملحنين الذين يحتل معظمهم مراتب أدنى من مرتبته في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, وعزلته عن موقعه في قيادة فرقتها الموسيقية - الذي ظل يشغله عقدين من الزمن - يدرك أن ما حدث للقصبجي هو مأساة حقيقية. ويكبر حجم المأساة حين نعلم أن نتيجتها تجاوزت القطيعة الفنية, بين القصبجي وأم كلثوم , إلى تجفيف ينابيع العبقرية الموسيقية لدى القصبجي, فتوقف نهائيًا عن الإبداع, لأم كلثوم أو سواها من الأصوات. 

لماذا هي قضية من قضايا الثقافة العربية المعاصرة? 
لأنه بالرغم من وجود عوامل شخصية أدت إلى هذه المأساة, فإن النقد في بلادنا غالبًا مااكتفى بهذه العوامل الشخصية, وقلما تنبه إلى العوامل العامة الأخرى, الأكثر أهمية في حياتنا العامة, والتي تدخل في شبكة علاقات التوتر والتناقض بين تيارات الحداثة والتغريب, والصراع الثقافي الهائل, الذي مازال يعصف بالعرب المعاصرين منذ قرنين, بحثًا عن الصيغة المثالية للتوازن, بين أساسيات الشخصية الحضارية والثقافية العربية من جهة, وعناصر الانتماء الحتمي والكامل للعصر الحديث بكل مكوناته ومتطلباته من جهة أخرى. 
الأستاذ والتلميذة 

يركز النقاد غالبًا, عندما يتحدثون عن الأساتذة الذين ساهموا في تكوين أساسيات الشخصية الفنية لأم كلثوم , على اسمين: والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي, الذي دربها على أصول الإنشاد الديني, (القاعدة الصلبة التي ظلت ترتكز إليها طيلة حياتها الفنية), والشيخ أبو العلا محمد, الذي دربها على أصول فن الغناء الكلاسيكي للقصيدة العربية, وهو الجسر التاريخي الذي سهل لها الانتقال من الإنشاد الديني إلى الغناء الدنيوي. 
فإذا وصل حديث النقاد إلى اسم محمد القصبجي, فإنهم غالبًا ما يكتفون بوضعه في خانة الملحنين الموهوبين الذين تعاملت معهم أم كلثوم , لا في خانة الأستاذ الثالث (وربما الأهم) في حياتها, الذي فتح أمام صوتها الأبواب المشرعة والآفاق الواسعة, ووضع كل عبقريته الموسيقية التجديدية في خدمة صوتها العبقري, لتستطيع بذلك الصمود في منافسة العبقرية التجديدية الأخرى الصاعدة كالصاروخ, في مجالي التجديد الغنائي والتجديد الموسيقي: محمد عبدالوهاب. 

فإذا صح - في مرحلة لاحقة - القول إن أم كلثوم قد نافست عبدالوهاب, بثلاثي من عباقرة التلحين: القصبجي وزكريا والسنباطي, فالصحيح أن دور القصبجي وسط هذا الثلاثي, كان متميزًا, خاصة في المرحلة التأسيسية الأولى, بين 1925 و1931 (أي قبل أن ينضم زكريا أحمد إلى فريق ملحنيها, ورياض السنباطي بعد ذلك في العام 1936). 
أما الآن, وبعد أن دخلوا جميعًا في ذمة التاريخ (أم كلثوم وملحنوها الأساسيون), فيمكن القول - استقراء لوقائع المرحلة التأسيسية الحساسة في حياة أم كلثوم - إن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم (في مراحلها الأولى), لم يكن فقط احتلال موقع الأستاذ الثالث في حياتها (بعد والدها وأبو العلا) لكنه كان الأستاذ الأساسي الذي كون لها الفرقة الموسيقية (وقادها) التي دخلت بها ميدان منافسة عبقري التجديد الآخر محمد عبدالوهاب, وأنه ظل وحده طيلة خمس أو ست سنوات, يزود هذه الفرقة وحنجرة: أم كلثوم , بالألحان التجديدية الساحرة, خاصة في نوع المونولوج, الذي سمح لها (قبل الدخول في منافسة متكافئة مع عبدالوهاب) الانتصار الكامل في معركة تنازع البقاء بينها وبين حنجرتين نسائيتين عظيمتين, كانتا تتقدمان الصفوف أمام أم كلثوم في طليعة الغناء النسائي العربي: منيرة المهدية وفتحية أحمد. وهناك وقائع تفصيلية كثيرة (لا مجال لها في المقال), تؤكد هذا الاستنتاج وتدعمه, لكن أهمها هو أن فتحية أحمد ومنيرة المهدية, حاولتا المقاومة بترديد ألحان القصبجي الجديدة لأم كلثوم , وتكليفه بأن يقدم لهما ألحانًا موازية, غير أن عظمة حنجرة أم كلثوم , وعظمة أسلوبها المتطور في الأداء - أصبح القصبجي مسئولا أول عن تطويره بعد رحيل أبو العلا محمد في العام 1927 - حسما الموقف نهائيًا لأم كلثوم . 

ومع أن زكريا أحمد قد دخل في العام 1931 ميدان الملحنين الأساسيين لأم كلثوم , بمزاج محافظ من الأدوار والطقاطيق, أغنت رصيد أم كلثوم (من قبل ظهور السنباطي في حياتها), بخط ثان محافظ لكنه يوازي خط القصبجي في عبقريته اللحنية, فقد ظل القصبجي, وفقًا لوقائع تلك المرحلة التاريخية من تطور الغناء العربي الكلاسيكي المعاصر, يلعب في حياة أم كلثوم دور الأستاذ الأول, الذي له الكلمة الأولى في تحديد وجهة السير الفنية (في الخطين المجدد والمحافظ). ومن المؤكد أن العلاقة بين القصبجي وأم كلثوم , كانت في تلك المرحلة, واستمرت حتى ما قبل المأساة, علاقة الأستاذ العبقري بتلميذته العبقرية. 
بين التحديث والتغريب 
من التفاصيل المهمة التي تحدد حجم دور القصبجي الأساسي في مسيرة أم كلثوم الفنية, والتي قلما يتوقف عندها النقاد والمؤرخون, أن رياض السنباطي - الذي شكل في مرحلة لاحقة ثنائيًا مهما مع حنجرة أم كلثوم , أنسى النقاد والمؤرخين كل أو معظم مسيرتها مع من سبقه من ملحنين - لم يبدأ علاقته كملحن عبقري بأم كلثوم بالصيغة السنباطية - الكلثومية, التي تبلورت وترسخت واشتهرت فيما بعد, بل بدأت هذه العلاقة بالتلحين من داخل الخط القصبجي, وليس في هذه الملاحظة أي مبالغة, أو تحيز للقصبجي, لكنها الحقيقة الموضوعية التي تنطق بها الوقائع, في تسلسلها الزمني. 

فبداية ظهور السنباطي في حياة أم كلثوم كانت في مونولوج (النوم يداعب), وفي ثلاثة ألحان له في فيلم نشيد الأمل (1936), ومن يستمع إلى هذه الألحان اليوم, يحسبها من تأليف محمد القصبجي, وهو أثر ظل واضحًا في أعمال السنباطي حتى أواخر الأربعينيات. 
غير أن تطورًا فنيا وثقافيا صارخًا طرأ في مطلع الأربعينيات, واتخذ شكل الصدمة التي أدت إلى المأساة التي نحن بصددها. 
إن خلاصة التجديد الهائل الذي أنجزه محمد القصبجي بين بداياته الأولى مع أم كلثوم (إن حالي في هواها عجب, وإن كنت أسامح), ونهاياته في: ما دام تحب بتنكر ليه, ورق الحبيب, تؤكد أنه تجديد يستند إلى معادلة ثقافية فنية, دقيقة التوازن بين جذور القصبجي العميقة, في تربة المقامات العربية, وآفاقه الواسعة المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوربية الكلاسيكية. 

ولعل هذا التوازن وصل ذروة الإبداع والعبقرية (قبل رق الحبيب) في ألحان القصبجي في فيلم نشيد الأمل (منيت شبابي, ويا مجد) وفي مونولوجات مثل يا ما ناديت, وفين العيون وسواهما. 
غير أن عاملاً مهمًا في هذه التجربة كان متوافرًا لدى المجدد الآخر (محمد عبدالوهاب), ولم يكن برأيي متوافرًا لدى القصبجي, هو عبقرية الصوت الغنائي. 
وهو عامل سيكون له برأيي الأثر الإيجابي الحاسم لدى عبدالوهاب, والأثر السلبي عند القصبجي, لعدم وجوده. لذلك فإن ارتباط حنجرة عبدالوهاب العبقرية بجذور الإنشاد الديني, لعب في مسيرته الفنية دور العامل الكيميائي الذي كان (يكبح) اختلال التوازن في التأثر بالموسيقى الأوربية, حتي لا يتحول التحديث (استعانة بهذا التأثر) إلى تغريب جارف, يجعل المؤلف الموسيقي يفقد بوصلته وسط محيط الموسيقى الذي لا أول له ولا آخر. 

وتؤكد الوقائع, مرة أخرى - وليس الاستنتاج النظري المجرد - أن ملامح فقدان التوازن بين التحديث والتغريب كانت تطل برأسها في بعض ألحان القصبجي, خاصة في لحنه الكبير لأسمهان (يا طيور) في مطلع الأربعينيات, أي في زمن انفجار مأساته مع أم كلثوم . 
ولما تولى القصبجي والسنباطي تلحين أغنيات فيلم (عايدة), في العام 1942, أفلتت بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب من أيدي القصبجي والسنباطي على حد سواء. وذلك واضح عند الاستماع إلى المقطع الأوبرالي من فيلم عايدة, الذي لحنه السنباطي (والباقي تسجيله حتى اليوم), فما بالك بالمقطع الذي لحنه القصبجي, والذي يبدو أن أم كلثوم مسحت تسجيله? 
صدمة الفشل, وصدمة الغيرة عند وصول العلاقة بين القصبجي وأم كلثوم إلى هذه النقطة, كانت الأمور المتأزمة بينهما تتراكم, حتى وصولها إلى لحظة الانفجار: 

من الواضح أن جرعة التغرب الذي كان القصبجي مسئولا عن قيادة أم كلثوم إليه (ومعها السنباطي) في فيلم عايدة, قد صدم (قبل أم كلثوم ) آذان المستمع العربي, الذي كان قبل ذلك يقبل بنهم شديد على تجديدات القصبجي الجريئة, ويمنحها رضاه وإعجابه, عندما كان التوازن الدقيق مسيطرًا على هذه التجديدات التاريخية الخالدة, ففشل فيلم (عايدة) سينمائيا وغنائيًا.
نحن بحاجة إلى دراسات تاريخية معمّقة ومفصلة, لنكتشف مدى انسجام شخصية أم كلثوم , التي تميل إلى التيار المحافظ, وآفاق التجديد التي قادها القصبجي, بين العشرينيات والأربعينيات, وهل كانت تؤدي هذه الألحان بروح المغامرة لديها في عمر الشباب? أم تعبيرًا عن طاعة التلميذ لأستاذه?! 

غير أن القشة, التي قصمت ظهر البعير حتمًا, كانت الفشل الجماهيري الذريع لـ(عايدة), كفيلم سينمائي وكألحان وأغنيات. 
ويقول المتخصص في سيرة أم كلثوم , الأستاذ محفوظ عبدالرحمن (كاتب مسلسل أم كلثوم ), في حديث هاتفي مطوّل بيني وبينه بهذا الشأن, إن أم كلثوم كانت لا تطيق الفشل, ولا تسمح باستمراره إذا ما زارها ذات يوم زيارة عابرة. 
وقد جاء فشل فيلم (عايدة), متزامنا مع فشل آخر, لعل أم كلثوم اعتبرت القصبجي مسئولاً عنه, هو فشل أغنية (وقفت أودع حبيبي) (في العام 1941) لصديق القصبجي الملحن اللبناني المقيم في مصر آنذاك فريد غصن, وكانت أم كلثوم قد قبلت اللحن, بعد أن قدمه القصبجي وألحّ عليها بقبوله. 
لكن الوقائع, تؤكد أن عوامل أخرى, قد حلّت في تلك الحقبة لتدفع الأمور بين القصبجي وأم كلثوم إلى انفجار كامل للمأساة, هو عامل الغيرة الفنية, بعد عامل الفشل, الذي تحدثنا عنه. 
أما الغيرة, فكان محورها النجاح الجماهيري, الذي بدأت تحصده حنجرتا أسمهان وليلى مراد. 

وكان يمكن لأم كلثوم أن تدير بروية ودهاء شئون هذه المسألة, لو لم يندفع القصبجي, بثقته بنفسه كأستاذ, يحق له أن يضم إلى (مدرسته) تلامذة آخرين بعد أم كلثوم , ليزوّد حنجرتي أسمهان وليلى مراد - خاصة الأولى - بألحان عبقرية, جمعت بين الجرأة الكاملة في ارتياد آفاق التجديد, وبين الإقبال الجماهيري الكبير عليها. 
عند هذا الحد من تجمّع وتراكم عوامل الأزمة, يبدو أن كل ما كان يفرق بين الروح الفنية والثقافية المحافظة لدى أم كلثوم , المغنية العبقرية, والروح الفنية والثقافية المنطلقة إلى التجديد بجموح وثقة بالغة بالنفس لدى محمد القصبجي الملحن العبقري, كل ذلك صحا دفعة واحدة ليولد الصدام الكبير. 
وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا العرض الموضوعي للوقائع, بتسلسلها التاريخي المجرد, خلاصة تحليلية من الزاويتين الثقافية والإنسانية, فإننا نسجل على أم كلثوم , بعد الاعتراف بحقها في الاختلاف الفني والثقافي مع أستاذها وملحنها العبقري, أنها تصيدته في لحظة فقد فيها (لأول مرة ربما), بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب, وأنها قررت أن تعامله, حتى نهاية حياته, بوتيرة غضبها الجارف, الذي انفجر في تلك اللحظة العابرة. 

كان بوسع أم كلثوم (في سيناريو آخر) أن تكتفي بردها الثقافي والفني, الذي عبرت عنه بفيلم متطرف في عروبته الفنية, ردّا على (عايدة) المتطرف في تغربه, هو فيلم (سلامة), الذي كلفت زكريا أحمد وحده بألحانه, لكنها تجاوزت هذا الموقف الثقافي الفني المبرر, إلى إصدار وتنفيذ حكم بالإعدام الفني والثقافي لمحمد القصبجي الإنسان والفنان, الذي كان بوسعها أن ترد له جميله التاريخي إزاءها, فتشجعه على استعادة بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب. 

أما العبقري النادر في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, محمد القصبجي, فقد أطلق صيحاته الأخيرة, في ثلاثة ألحان لحنجرة ليلى مراد الرائعة (قلبي دليلي, في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه, و(يختي عليه), و(نعيمًا يا حبيبي) في فيلم (شاطئ الغرام), قبل أن يختم تعامله مع أم كلثوم إلى الأبد, بألحان عادية في فيلم (فاطمة). 
بعد ذلك, وحتى رحيل العبقري محمد القصبجي في 25/3/1966, نضبت ينابيع عبقريته الموسيقية تمامًا, وتحوّلت قيادة فرقة أم كلثوم منه إلى عبقري القانون محمد عبده صالح, فتحول إلى مجرد عازف للعود في الفرقة, يعزف وراء أم كلثوم حتى آخر يوم في حياته, كما كان يتمنى (وكما أكّد لصديق عمره المؤرخ الموسيقي محمود كامل), ويذبل يومًا بعد يوم, حتى كعازف عبقري على آلة العود.